الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : ففي الحج معان عظيمة ، وحكم بالغة ، ومنافع كثيرة ،
كما قال سبحانه : { ليشهدوا منافع لهم } [الحج : 28]
، وفي هذه الصفحات نورد جملة من
معاني العقيدة ومسائل أصول الدين من خلال هذه الفريضة :
أولاً : التسليم والانقياد لشرع الله تعالى :
كم نحتاج أخي القارئ إلى ترويض عقولنا ونفوسنا كي تنقاد لشرع الله
(تعالى) بكل تسليم وخضوع ، كما قال (سبحانه) : فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
[النساء : 65] .
فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم ، فإنّ تنقل الحجاج بين المشاعر ،
وطوافهم حول البيت العتيق ، وتقبيلهم للحجر الأسود ، ورمي الجمار ... وغيره
كثير : كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله (تعالى) ، وقبول حكم الله
(عز وجل) بكل انشراح صدر ، وطمأنينة قلب .
لقد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) فقالا : ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت
التواب الرحيم [البقرة : 128] .
لقد دعوا لنفسيهما ، وذريتهما بالإسلام ، الأذي حقيقته خضوع القلب وانقياده
لربه المتضمن لانقياد الجوارح .
ورضي الله عن الفاروق عمر إذ يقول عن الحجر الأسود : » إني أعلم أنك
حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك
ما قبلتك « [1] .
يقول الحافظ ابن حجر : » وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين،
وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -
صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه « [2] .
ويقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني (رحمه الله) : » ومن مذهب أهل السنة:
أن كل ما سمعه المرء من الآثار [3] مما لم يبلغه عقله ، فعليه التسليم والتصديق
والتفويض والرضا ، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه « [4] .
ويقول ابن القيم (رحمه الله) : » إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله
على التسليم ، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامروالنواهي والشرائع ،
ولهذا لم يحك الله (سبحانه) عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء ، أنها سألته
عن تفاصيل الحكمة فيما ، ونهاها عنه ، وبلغها عن ربها ، بل انقادتْ ، وسلمتْ ،
وأذعنت ، وما عرفت من الحكمة عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها
وإيمانها واستسلامها بسبب عدم معرفته ، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم
عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لِمَ أمر الله بذلك ؟ ولِمَ نهى عن ذلك ؟ ولِمَ فعل
ذلك ؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام « [5] .
ثانياً : إقامة التوحيد :
إن هذه الشعيرة العظيمة قائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له ؛ قال
(سبحانه) : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي
للطائفين والقائمين والركع السجود [الحج : 26] .
وحذر (سبحانه) من الشرك ونجاسته ، فقال (عز وجل) : فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به [الحج : 3031] .
بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده ، والكفر بالطاغوت ، شُرع للحاج أن
يستهل حجه بالتلبية قائلاً : » لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد
والنعمة لك والملك ، لا شريك لك « .
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة
بسورتي الإخلاص (قل هو الله أحد) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، كما كان يفعل
الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
كما شَرعَ الله (تعالى) التهليل عند صعود الصفا والمروة ، فيستحب للحاج
والمعتمر أن يستقبل القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويحمد الله ويكبره ويقول : »
لا إله إلا الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ،
يحي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر
عبده ، وهزم الأحزاب وحده « .
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضاً كان خير دعاء يوم عرفة أن يقال : » لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحي ويميت ، وهو على كل
شيء قدير « .
وفي مناسك الحج وشعائره تربيةٌ للأمة على إفراد الله (سبحانه) بالدعاء
والسؤال والطلب ، والرغبةإليه ، والاعتماد عليه ، والاستغناء عن الناس ، والتعفف
عن سؤالهم ، والافتقار إليهم ؛ فالدعاء مشروع في الطواف والسعي ، وأثناء الوقوف
بعرفة ، وعند المشعر الحرام ، وفي مزدلفة ، كما يشرع الدعاءوإطالته بعد الفراغ
من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق .
ثالثاً : تعظيم شعائر الله (تعالى) وحرماته :
قال الله (تعالى) بعد أن ذكر أحكاماً عن الحج : ذلك ومن يعظم حرمات الله
فهو خير له عند ربه [الحج : 30] .
والحرمات المقصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في قوله (تعالى) : ثم
ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم [الحج : 29] [6] .
وقال (سبحانه) : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
[الحج : 32] ، فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب [7] .
وتعظيم شعائر الله (تعالى) يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها ، وتكميل العبودية
فيها ؛ يقول ابن القيم (رحمه الله) : » وروح العبادة هو الإجلال والمحبة ، فإذا
تخلى أحدهما عن الآخر فسدت « [8] .
ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : » لا تزال هذه
الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني : الكعبة] حق تعظيمها ، فإذا ضيعوا ذلك
هلكوا « [9] .
رابعاً : محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل أعمال القلوب ، وأفضل
شعب الإيمان ، ومحبة الرسول صتوجب متابعته والتزام هديه ، وإن التأسي برسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء القيام بمناسك الحج سبب في نيل محبته ، حيث
قال -صلى الله عليه وسلم- : » خذوا عني مناسككم « ، وفي اتباع النبي -صلى
الله عليه وسلم- تحقيق لمحبة الله (تعالى) ؛ كما قال (سبحانه) : قل إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31] .
خامساً : تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراءة من المشركين :
كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً .. وتمزقهم إلى دول متعددة
ومتناحرة .. وقد غلبتْ عليهم النعرات الجاهلية المختلفة ، وإن فريضة الحج أعظم
علاج لهذا التفرق والتشرذم ، فالحج يجمع الشمل ، وينمي الولاء والحب والنصرة
بين المؤمنين ، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي الكتاب والسنة
وقبلتهم واحدة ، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً ، حيث يجمعهم لباس واحد ،
ومكان واحد ، وزمان واحد ، ويؤدون جميعاً مناسك واحدة .
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين : حيث الحج مدرسة لتعليم
السخاء والإنفاق ، وبذل المعروف أياً كان ، سواء أكان تعليم جاهل ، أو هداية تائه،
أو إطعام جائع ، أو إرواء غليل ، أو مساعدة ملهوف .
وفي المقابل : ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم ؛ يقول
ابن القيم : » استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في
المناسك « [10] .
لقد لبى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد ، خلافاً للمشركين في تلبيتهم
الشركية ، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم،
كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل
غروبها .
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس ،
فخالفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فدفع قبل أن تطلع الشمس .
وأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته
في حجة الوداع ، حيث قال : » كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي
موضوع « [11] ؛ يقول ابن تيمية : » وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات
والعبادات ، مثل : دعواهم يا لفلان ، ويا لفلان ، ومثل أعيادهم ، وغير ذلك من
أمورهم « [12] .
سادساً : تذكر اليوم الآخر واستحضاره :
فإن الحاج إذا فارق وطنه وتحمل عناء السفر : فعليه أن يتذكر خروجه من
الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها .
وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام : فعليه أن يتذكر لبس كفنه ، وأنه سيلقى
ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا .
وإذا وقف بعرفة : فليتذكر ما يشاهده من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم
واختلاف لغاتهم ، موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن [13] ؛ قال ابن
القيم : فلله ذاك الموقف الأعظم الذي ... كموقف يوم العرض ، بل ذاك أعظم
نسأل الله (تعالى) أن يتقبل منا ومن المسلمين صالح الأعمال ، وبالله التوفيق .