يقول الله تعالى :
( وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين )
كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع ، فمنهم من كان يغلب عليه الخوف والحياء . وقف مطرف بن عبد الله الشخير ، وبكر المزني ، بعرفة ، فقال أحدهما : اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي ، وقال الآخر : ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله ، لولا أني فيهم ! ،ووقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة ، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء ، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء ، وقال : واسوءتاه منك وإن عفوت ! وقال الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم : إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرا مني ومنك فبئس ما ظننت ..
دعا بعض العارفين بعرفة ، فقال : اللهم ، إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني ..
وقد غلب على أحد السلف الشوق فكان يقول واشوقاه إلى من يراني ولا أراه ، وقد رؤي بعرفة وهو يقول :
سبحــان من لو سجدنا بالعيون له على حمى الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشـــر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشـرا من العشر
هو الرفيع فلا الأبصـــار تدركه سبحانه من مليك نـــافــذ القدر
سبحان من هو أنسي أذ خلوت به في جوف ليلي وفي الظلماء والسحـر
أنت الحبيب وأنت الحب يا أمـلي من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري
ومن العارفين من كان يتعلق بأذيال الرجاء ، قال ابن مبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة ، وهو جاث على ركبتيه ، وعيناه تهملان ، فالتفت إلي ، فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالا ؟ قال : الذي يظن أن الله لا يغفر لهم ..
وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة ، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا ( يعني سدس درهم ) ، أكان يردهم ؟ قالوا : لا ، قال : والله ، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق .
وعما قليل يقف إخوانكم بعرفة في هذا الموقف ، فهنيئا لمن رُزقه ، يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ، ودموع مستبقة ، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ، ومحب ألهبه
الشوق وأحرقه ، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدّقه ، وتائب نصح لله في التوبه وصدقه ،
وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه ، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه ،
ومن أسير للأوزار فكّه وأطلقه ، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ، ويباهي بجمعهم أهل السماء ، ويدنو ثم يقول : ما أراد هؤلاء ؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمان ، هو الذي أعطى ومنع ، ووصل وقطع ..
من فاته هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه ، من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله ، وقد قرّبه وأزلفه .. من لم يمكنه القيام بأرجاء الخَيْف ، فليقم لله بحق الرجاء والخوف . من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى .. من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت ، فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد .
يا همم العارفين ، بغير الله لا تقنعي ، يا عزائم الناسكين ، لجميع أنساك السالكين أجمعي ، لحب مولاك افردي ، وبين خوفه ورجائه اقرني ، وبذكره تمتعي ..
يا قلوب المحبين ، بكعبة الحب طوفي واركعي ، وبين صفاء الصفا ومروة المروة اسعي وأسرعي ، وفي عرفات العرفان قفي وتضّرعي ، ثم إلى مزدلفة الزّلفى فادفعي ، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي ، فإذا قرّب القرابين فقرّبي الأرواح ولا تمنعي ، لقد وضح اليوم الطريق ، ولكن قلّ السالك على التحقيق وكثر المدّعي ..